مؤسسة الشرق الأوسط للنشر العلمي
عادةً ما يتم الرد في غضون خمس دقائق
بما أنّ الفضاء هو شرط الوجود، فإنّ وعي الإنسان بوجوده لا يتمّ إلّا عبر وعيه بالفضاء الذي هو جزء لا يتجزّأ منه. لذلك سعينا في هذه الورقة الموجزة إلى دراسة كيفيّة وعي الإنسان بالفضاء من منظور الفلسفة أوّلا. وقد وصلنا إلى نتيجة مفادها أنّ وعي الإنسان بالفضاء هو وعي ذاتيّ بالضّرورة، فالكلّ داخل الذّات ولا شيء خارجها، وأنّ الموضوعيّة منهجًا في إدراك الفضاء مجرّدُ وهمٍ ولا تعدو أن تكون درجة دنيا من درجات الذّاتيّة (تقع في أدنى سلّم الذّاتيّة)، وذلك بناءً على منطلقات منطقيّة عامّة أهمّها ذاتيّة فعل الإدراك لدى الإنسان، وذاتيّة اللّغة المستخدمة في هذا الإدراك. وإذا كان الفضاء فلسفيّا غيرَ موجود بالنّسبة إلى الإنسان إلّا عند الوعي به، فإنّه بذلك يقترب من الذّاتيّة الأدبيّة التي يعود إليها إنتاج الفضاء وتصميمه كلّيا في عالم الإبداع الأدبيّ. فالذّاتيّة الأدبيّة في مقاربة الفضاء هي - على نحو ما - ذاتيّة من درجة عليا، وهي استئناف للذّاتيّة الفلسفيّة، لذلك اخترنا أن نصطلح عليها بـ "ذاتيّة الذّاتيّة". فثمّة تقارب كبير إذن بين الفلسفة والأدب من هذه النّاحية في تصوّر الفضاء وعلاقة الإنسان به يصل إلى حدّ التّقاطع في بعض الأحيان. وهذا طبيعيّ في ظلّ العلاقة الوثيقة والممتدةّ تاريخيّا بين المجاليْن، ويكفي أن نذكر مثالا واحدًا هو الفلسفة الرّومنسيّة التي تعتبر الذّات منشئة الكون والتي وقعت ترجمتها فيما بعد إلى تيّار أدبيّ. من ناحية أخرى، لاحظنا وجود تقاطع بارز بين الأدب و"الهندسة" – المعماريّة مثلا- في علاقتهما بالفضاء. فكلاهما يتعرّض للفضاء بخياله، ويفعل فيه بموجب هذا الخيال، وهو أمرٌ لا مناص منه، لذلك رأينا من المناسب أن نستخدم عبارة "الأديب – المهندس" في وصف ذاتيّة الأديب في التّعامل مع الفضاء، وتمييزها من ذاتيّة الفيلسوف. وهذه "الهندسة الأدبيّة" هندسات: فمنها هندسة الفضاء (زمانًا ومكانًا)، هندسة الصّورة، هندسة الفعل، هندسة اللّغة