مؤسسة الشرق الأوسط للنشر العلمي
عادةً ما يتم الرد في غضون خمس دقائق
الجائحة كما تؤثر على الأجساد والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، تؤثر أيضا على العقول والإبداع الفني، فكان من البديهي أن تتأثر اللغة الإبداعية مواكبة وواصفة، وحتى ساخرة من التداعيات المخيفة للوباء، فكأنه شكل من أشكال مقاومة الإنسان الذاتية إزاء ما يتعرض له من فتك ودمار، وباعتبار النص الإبداعي تجل من تجليات الواقع، فإن هذا الواقع لا يعدو أن يكون ذا علاقة سببية فقط، حيث يعمد المبدع إلى الظاهرة فيحيلها صورا تعبيرية تنضح حياة وحيوية واستباقية، وباعتبار الأدب شكلا من أشكال الحياة، فمن الطبيعي أن يتفشى فيه الوباء كما تفشى بين الناس، لكن بقدر ما ينتج عن فشوه بين الكائنات الحية موتا وفتكا ودمارا، بقدر ما يكون فشوه في الإبداع حياة وحركية تمثلت في نصوص خالدة أثرت الإنسانية بمشاعر وأحاسيس هي نتاج الألم والأمل. ولا شك أن الأدب هو انعكاس للحياة الواقعية للأفراد والأمم، فهو مرآة تلك الحياة وصداها المتردد في بواطن العقل بطريقة تجذب القلوب وتأنس لها العقول، فيأتي الإبداع الأدبي مستعيرا هواجس الخوف من انتقال العدوى ومصورا لحالة الهلع الذي يتحول لرهاب مزمن يلتصق التصاقا بلغة التواصل ولا ينفك عنها إلا بمرور سنوات بل قرونا عديدة. و باعتبار أدب الوباء هو فرع من أدب الكوارث والنوازل فسنجد أن اللغة العربية قد حفظت لنا تراثا عظيما من هذا النوع من الكتابة من خلال كتب الآداب والتاريخ والطب، بل منهم من أفرد له تواليف خاصة، ولا عجب في ذلك فقد كان الوباء يشكل تحديا رهيبا حيث كان يقتل الملايين في حملات متعددة ومتقاربة شملت كل أنحاء العالم، ويكفي الاطلاع على أحد هذه المؤلفات مثل كتاب " ما رواه الواعون في أخبار الطاعون" للجلال السيوطي ليتضح هول المشهد الناضح بصور الفتك والدمار، حتى قال ابن أبي حجلة عن وباء القرن الثامن مثلا " مات فيه على وجه التقريب نصف العالم أو أكثر". كان لابد أن نجد صدى تلك المعاناة في كل أنواع التعبيرات اللغوية، ومنها النثر فحملت لنا الرحلات والرسائل والمقامات هموم أصحابها وطغت لغة الخوف وانتشرت رائحة الموت من ثنايا العبارات والصور المتخيلة، وممن استعمل تيمة الوباء في أدبه نجد الفقيه أبا علي الزجال في مقامته التي صاغها عن الوباء، حيث استغل فيها الشعور بالخوف الجمعي و امتطاه وسيلة لدعوة أمير غرناطة للخروج من مقر ملكه والانتقال الى مدينته المحبوبة مالقة، وقد لاحظت من خلال الاحتكاك الأولي لهذا النص استخداما لافتا لوسائل إقناعية حاجج بها أبو علي مخاطبه للإذعان لمقصده، ومن هنا استقر الرأي على مقاربة هذه المقامة مقاربة حجاجية زاوجت فيها بين آليات الحجاجين البلاغي واللغوي، متوسلا بنظرية الحجاج اللغوي التي أرسى دعائمها أزفالد ديكرو منهجا، بالإضافة إلى نظرية الفيلسوف بيرلمان حول البلاغة الجديدة، وذلك إيمانا مني بتكامل المنهجين اللغوي والبلاغي في الحجاج من حيث كون جميع الخطابات تكتنز أنماطا متعددة من الحجج اللغوية والبلاغية والمنطقية.